اﺛﻨﺎ ﻋﺸﺮ ﻋﺎﻣًﺎ ﻣﻦ اﻟﻌــﺒﻮدﻳﺔ
المــــــقــــــدمــــــــة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هـذا الكتـاب يسـتعرض قصـة حقيقيـة هـزت المجتمـع األمريكـي، للمواطـن األسـود الحر، سـولمون ثورب، الذي ولد ونشـأ في والية نيويورك في الشـمال األمريكي حيث كانت العبودية محظورة. ثـم بيعـه فـي سـوق العبيـد، وعانـى طـوال اثنـي 1841 وقـد تـم اختطافـه مـن واشـنطن فـي عـام عشـر عامًــا عذابـات العبوديـة المروعـة لكـي يبقـى علـى قيـد الحيـاة، حتـى تـم إنقـاذه بشـبه معجـزة . ومــن فــوره ســجّل تجربتــه المريــرة بمســاعدة الكاتــب 1853 وعودتــه إلــى أســرته وأوالده، عــام ديفيـد ويلسـون فـي هـذا الكتـاب الـذي صـار مـن أكثـر الكتـب مبيعًــا. وحديثًــا أخـرج فيلمًــا سـينمائيًا .2014 ناجحًــا حصـد عديـدًا مـن الجوائـز، منهـا أوسـكار أفضـل فيلـم للعـام الكتــاب هــو وثيقــة واقعيــة يــروي بطلهــا فيهــا تفاصيــل الحيــاة والمعاملــة الوحشــية التــي كان يــرزح تحــت نيرهــا هــو والعبيــد البؤســاء، ويلقــى الكثيــرون منهــم حتفهــم تحــت ســياطها وألــوان وحشــيتها المروعــة فــي الجنــوب األمريكــي، كمــا أنــه درس فــي قــوة الــروح اإلنســانية، والتصبّــر بالعــودة إلــى الــوراء قــدر مــا اســتطعت التوثّــق منــه، فــإن أســافي مــن ناحيــة األب كانــوا عبيــدًا لــدى عائلــة نورثــوب التــي انتقــل أحــد أبنائهــا إلــى واليــة نيويــورك مصطحبًــا معــه أبــي. وبوفــاة هـذا النبيـل، ربمـا قبـل نحـو خمسـين عامًــا صـار والـدي حـرّاً، بمقتضـى عتقـه حسـب وصيـة الرجـل. وقـد قضـى والـدي حياتـه فـي الزراعـة، ولـم يسـع إلـى أي مـن تلـك الوظائـف الحقيـرة التـي كانـت تبـدو مخصصـة ألبنـاء إفريقيـا علـى وجـه التحديـد. وباجتهـاده واقتصـاده تملّــك مـا يكفـل لـه حـق التصويــت، وبمثابرتــه ونزاهتــه كان يحظــى باالحتــرام. وقــد حــرص علــى أن يوفــر لنــا قســطًا مــن التعليــم يتجــاوز مــا كان يحصــل عليــه أمثالنــا، وعلــى أن تتشــرب عقولنــا حــب األخــاق واإليمــان بالخالـق الـذي ال يفـرق بيـن عبـاده الفقـراء واألغنيـاء. وقـد كنـت أسـاعده فـي عملـه فـي المزرعـة، واعتـدت قضـاء سـاعات الراحـة، إمـا مـع كتبـي أو العـزف علـى الكمـان الـذي كان شـغف حياتـي، ومصـدر مسـرة لكثيريـن ممـن عرفتهـم. تــاركًا أرملــة وابنيــن: أنــا وأخــي األكبــر جوزيــف. وقــد تزوجــت بعــد ذلــك 1929 توفــي أبــي عــام ورزقـت بثلثـة أوالد، وأحببـت أسـرتي حبًــا عميقًــا، كان مـدار فكـري ونـور قلبـي طـوال حياتـي، كمـا كان حنينــي إليهــم مصــدر إلهامــي وعذابــي معًــا فــي محنتــي فــي أغــال العبوديــة. واألمــل، وإرادة الحيــاة والحريــة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 | اثنا عشر عامًا من العبودية
كنــت شــابًا مجتهــدًا، وعملــت فــي أعمــال كثيــرة وأماكــن عديــدة فــي بــاد الواليــة وفــي كنــدا أيضـا. عملـت فـي الزراعـة، وفـي إصـاح قنـاة شـامبلين، وفـي النقـل باألطـواف فيهـا، وفـي قطـع األخشــاب، وفــوق ذلــك فــي فــن العــزف علــى الكمــان، كمــا اشــتهرت زوجتــي كطاهيــة ماهــرة فـي فنـون الطهـي، وعملـت فـي أكثـر مـن مطبـخ شـهير. وهكـذا لـم يكـن فـي سـجل حياتـي أي شـيء غيـر مألـوف.. الشـيء إال اآلمـال العاديـة والحـب والعمـل لرجـل أسـود مغمـور، يحـرز تقدمًــا متواضعًــا فـي هـذا العالـم، حتـى دهمتـه غيـوم كثيفـة مظلمـة، لـم تخطـر يومًــا علـى بالـه.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، لـم يكـن هنـاك عمـل يشـغلني، فرحـت 1841 فـي صبـاح أحـد األيـام مـن أواخـر شـهر مـارس عـام أتجـول فـي قريـة سـاراتوجا مفكـرًا فـي كيفيـة الحصـول علـى عمل، بينما ذهبـت زوجتي آن كعادتها إلـى عملهـا كمشـرفة علـى الطهـي فـي سـاندي هـل علـى مسـافة عشـرين ميـاً. وعنـد ناصيـة شـارع قابلـت رجليـن يبـدوان محترميـن، ويظهـر أن أحد معارفـي دلهما عليّ، وعرفهما أننـي عـازف ماهـر علـى الكمـان، فأخبرانـي بأنهمـا علـى صلة بشـركة سـيرك، وحاليـًـا يقومان بعروض خاصـة فـي نيويـورك ويحتاجـان لموسـيقي يرافقهمـا لفتـرة قصيـرة، وعرضـا علـي مرافقتهمـا بأجـر مناسـب. وفـورًا قبلـت العـرض، واعتقـدت أننـي سـأرجع بعـد بضعـة أيـام، ربمـا قبـل عـودة زوجتـي مـن عملهـا فـي سـاندي هـل. فــي الطريــق توقفنــا عنــد فنــدق فــي إحــدى المــدن الصغيــرة، حيــث قدمــا عرضهمــا بمرافقــة موسـيقاي، وفـي اليـوم التالـي واصلنـا الرحلـة إلـى نيويـورك، وفيهـا أخذنـا أمتعتنـا إلـى منـزل فـي الجانـب الغربـي مـن المدينـة، وأثنـاء حديثنـا شـرعا يلحـان علـي كـي أواصـل معهمـا حتـى واشـنطن، ووعدانـي بعمـل جيـد وأجـر مرتفـع إضافـة إلـى مزايـا مغريـة جعلتنـي أقبـل العـرض.. فــي الصبــاح، اقترحــا أن نحصــل علــى وثائــق الحريــة قبــل مغادرتنــا نيويــورك، ألننــا ســندخل واليــة تجيــز العبوديــة، فوجــدت الفكــرة حكيمــة برغــم أنهــا لــم تخطــر ببالــي قبــل اقتراحهمــا، وبالفعــل قضينـا معظـم اليـوم بيـن مصلحـة الجمـارك ومكتـب الموثـق ودفعنـا الرسـوم المقـررة، وحصلـت علــى الوثائــق النهائيــة المثبتــة أنــي إنســان حــر. ركبنــا العبّــارة إلــى مدينــة جيرســي ثــم المركبــات، حتــى وصلنــا واشــنطن بحلــول الليــل، فــي الليلــة الســابقة لجنــازة الرئيــس الجنــرال هاريســون، ونزلنــا فــي فنــدق، وبعــد العشــاء اســتدعياني حيــث دفعـا لـي مبلغًــا أكبـر مـن أجـري، ونصحانـي بعـدم الخـروج إلـى الشـارع فـي الليـل، ممـا زاد ثقتـي بهمــا. وفــي اليــوم التالــي شــهدت واشــنطن موكبًــا جنائزيًــا حافــا صاحبــه هديــر المدافــع وقــرع
3 | اثنا عشر عامًا من العبودية
األجـراس، واكتسـت الشـوارع باألسـود الـذي يرتديـه النـاس، وشـاهدت مـع رفيقـي الموكـب، ثـم تجولنــا فتــرة، وعمــد رفيقــاي إلــى دخــول الحانــات عــدّة مــرات، وتقديــم كأس لــي، وفــي الليــل لـم أسـتطع تنـاول العشـاء وأصبـت بالغثيـان، فقادنـي الخـادم إلـى غرفتـي، فـزادت حالتـي سـوءًا، وأبلغـت بضـرورة الذهـاب إلـى طبيـب، واقتادونـي وأنـا شـبه مغمـى علـي إلـى الشـارع وإلـى بيـت مظلــم، ثــم فقــدت الوعــي، وال أدري كــم مــن الوقــت واأليــام مــرّا علــي، ولكــن عندمــا عــاد إلــي الوعــي كنــت بمفــردي فــي ظــام حالــك ومقيــدا باألغــال.. مذهــو وفزعًــا تحسســت جيوبــي بقــدر مــا ســمحت قيــودي، فلــم أجــد شــيئًا مــن أوراق حريتــي أو مالـي، وسـرعان مـا أدركـت أننـي اختطفـت، وشـيئًا فشـيئًا تأكـدت شـكوكي، وانقبـض صـدري عاجــزًا، وحنيــت رأســي فــوق يــدي المقيدتيــن وبكيــت فــي مــرارة وعــذاب.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مـن الظـام المطبـق، والرطوبـة والرائحـة العفنـة، وأصـوات حركـة وأقدام فوق المكان، اسـتنتجت أننـي فـي غرفـة تحـت األرض فـي بيـت بشـارع تجـري فيـه العربـات. وبعـد سـاعات فتـح بـاب قـوي فسـرَى فيـض مـن الضـوء، ودخـل رجـان: أحدهمـا ضخـم الجثـة قـوي البنية ملمحه خشـنة تعبّرعن شـدة القسـوة والشـر، عرفــت فيما بعــد أنه تاجر رقــيق معــروف في واشـنطن، واآلخر كان خادمًا لـه وسـجانًا، كمـا عرفـت أن البيـت يتألـف مـن طابقيـن، بأحـد الشـوارع العامـة بواشـنطن، واجهتـه توحـي بأنـه مجـرد مسـكن خـاص هـادئ، فـا تخطـر ببـال أي غريـب طبيعـة اسـتخداماته المقيتـة كحظيـرة وسـجن يحتجـز فيـه العبيـد. كانـت مفارقـة غريبـة أن هـذا المنـزل يطـل مـن مكانـه علـى مبنـى الكابيتـول، حيـث أصـوات ممثلـى الشـعب الذيـن يتباهـون بالحريـة والمسـاواة، تـكاد تختلـط بقعقعـة أصفـاد العبيـد البؤسـاء فـي تلـك الحظيـرة.. بـدأ الرجـل الضخـم الـكلم، ودار حـوار، هـو يؤكـد أننـي عبـد لـه وأنـه اشـتراني وسـيبيعني، وأنـا أؤكـد صارخًــا أننـي حـر ولـي زوجـة وأبنـاء أحـرار. وأمـام إصـراري دخـل فـي حالـة عصبيـة هـادرة وراح يسـبني بأقـذع الشـتائم، وأمـر خادمـه بإحضـار العصـا والسـوط، وهمـا أدوات التعذيـب الوحشـي، وأمسـكا بـي وأنـا مقيـد ووجهـي علـى األرض، وانتزعـا ملبسـي، وانهالـت الضربـات علـى جسـدي العـاري، وكلمـا صرخـت ألمًــا وإصـرارًا اشـتد الضـرب، حتـى انكسـرت العصـا، فأمسـك بالسـوط ذي الجدائـل المتعـددة بعقـد فـي نهاياتهـا، وانهـال بـه علـى جسـدي بوحشـية، وكان أشـد إيلمًــا وكأن حريقًــا قــد نشــب فــي لحمــي وعظمــي، حتــى بــدا أن لحمــي الممــزق ينتــزع عــن عظمــي مــع كل ضربــة، ولمـا تعـب توقـف صارخًــا مقسـمًا أنـه إمـا أن يكسـر عزيمتـي أو يـدق عنقـي، وخـرج وخادمـه خلفـه
4 | اثنا عشر عامًا من العبودية
وأغلــق البــاب، وأطبــق علــي الظــام. وبعــد نحــو ســاعة فتــح البــاب ودخــل الخــادم وقــدم لــي قطعـة صغيـرة مـن لحـم الخنزيـر وشـريحة خبـز وكـوب مـاء، وحذرنـي مصطنعًــا السـرية والـود مـن مغبـة ذكـر كلمـة عـن حريتـي.. ومـرت األيـام والليالـي وانـا أبكـي وأتعـذب بسـبب جروحـي التـي لـم تكـن تسـمح لـي بالبقـاء فـي أي وضــع، جالسًــا أو واقفًــا أو متحــركًا ببــطء فــي أرجــاء الغرفــة المظلمــة. وبعــد عــدة أيــام فتــح البــاب، وســمح لــي بالحركــة فــي الفنــاء، حيــث قابلــت ثلثــة مــن العبيــد: صبيًــا فــي العاشــرة مــن عمـره يدعـى رانـدال، وشـابين أكبرهمـا تقـرب إلـي بتعاطـف، حتـى إننـي رويـت لـه قصتـي الحزينـة، فنصحنـي بالصمـت مـن اآلن فصاعـدًا عـن موضـوع حريتـي، وأكـد لـي بنـاء علـى تجاربـه ومعرفتـه بمالكنــا، أننــي لــن ألقــى إال مزيــدًا مــن التعذيــب. ظللـت فـي حظيـرة العبيـد نحـو أسـبوعين، وفـي الليلـة األخيـرة ضُمـت إلينـا امـرأة تدعى إليـزا، تبكي بمــرارة وهــي تجــر فــي يدهــا طفلــة صغيــرة. كانتــا أم الصبــي رانــدال وأختــه غيــر الشــقيقة، فــكان لقاؤهـم مؤثـرًا وباكيـًـا خشـية بيعهـم متفرقيـن. كانـت المـرأة متميـزة بمسـحة مـن الجمـال وكانـت الطفلــة جميلــة حقًــا بمــا يوحــي أنهــا نشــأت فــي بيئــة راقيــة. فيمــا بعــد روت لــي إليــزا قصتهــا: كانـت أَمـة بيـن عبيـد رجـل ثـري فاسـق كان يسـتغلها، فخصـص لهـا منـز فـي مزرعتـه عاشـت فيـه معـه تسـع سـنوات وكانـت الطفلـة الجميلـة ابنتـه، وكان يعدهـم بعتقهـم، لكـن ظروفـه تغيـرت وقُسـّـمت أملكـه وبيعـت إليـزا وابنهـا وطفلتهـا، فسـقطت مـن قمـة السـعادة إلـى أعمـق أعمـاق البـؤس، فـا عجـب أنهـا كانـت دائمـة العويـل والبـكاء بعبـارات تدمـي القلـب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فـي منتصـف الليلـة األخيـرة لنـا فـي حظيـرة العبيـد، فُتـح البـاب، وأُمرنـا أن نطـوي فرشـنا ـ وهـي أغطيـة كتلـك التـي توضـع علـى ظهـور الجيـاد ـ ورُبطنـا معـا بأصفـاد األيـدي، واقتادونـا فـي هـدوء الظــام عبــر شــوارع واشــنطن إلــى عنبــر فــي باخــرة، أبحــرت بــدون أن نعــرف إلــى أيــن. كان كل تفكيـري أن أغتنـم فرصـة تسـنح لـي للهـرب. وبحلـول الضحـى وصلـت الباخـرة إلـى بلـدة، حيـث ركبنـا عربـة أخذتنـا إلـى ريتشـموند، المدينـة الرئيسـة فـي فيرجينيـا، ووضعنـا فـي حظيـرة للعبيـد بهـا فنـاء لفحصهـم مـن قبـل المشـترين قبـل عقـد الصفقـات. بعـد عشـاء قطعـة مـن لحـم الخنزيـر وشـريحة خبـز، قُيّــدت إلـى رجـل ضخـم شـاحب حزيـن، الحظـت فيـه الـذكاء والمعرفـة، وسـرعان مـا تعاطفنـا وعرفـت أنـه مثلـي حـر ولـه زوجـة وطفـان، وأنـه جـاء مـع رجليـن اسـتأجراه لعمـل، فجـرى لـه مـا جـرى لـي مـن اعتقـال وأسـر وتعذيـب، حتـى تعلـم ضـرورة
5 | اثنا عشر عامًا من العبودية
الصمـت. وكان محزنًــا أنـه مـا لبـث أن مـرض وتوفـي حزينًــا باكيًــا. كان فــي الحظيــرة نحــو ثلثيــن عبــدًا آخريــن كان لــكل منهــم قصــة محزنــة، وتــم بيعهــم الواحــد تلـو اآلخـر، أمـا نحـن فقـد اقتادونـا إلـى سـفينة كبيـرة، وفـي أحـد المراسـي ضُــم إلينـا أربعـة عبيـد، أحدهـم كان ثائـرًا، عرفـت أنـه حـر مثلـي ولـه أسـرة ويعمـل بنـاء، ولكنـه تعـرض فـي إحـدى الليالـي لهجـوم وحشـي واختطـف وعـذب، ثـم أصابـه اليـأس واالكتئـاب. وممـا ال أنسـاه أننـا انخرطنـا مـع عبـد ثالـث يعـرف الكثيـر عـن السـفينة وبحارتهـا فـي التفكيـر فـي محاولـة الهـرب باالسـتيلء علـى السـفينة، لكنـه مـرض بالجـدري ثـم توفـي، وألقيـت جثتـه فـي النهـر. كذلـك ممـا ال أنسـاه أن أحـد البحــارة تعاطــف معــي بصــدق حتــى إننــي صارحتــه بقصتــي، فســاعدني علــى كتابــة رســالة إلــى أهلـي، واسـتطاع فـي أحـد المراسـي بسـرعة واحتيـال أن يرسـلها بالبريـد. وقـد عرفـت بعـد ذلـك أنهـا وصلـت، ولكـن خلوهـا مـن أي معلومـات مفيـدة عـن مكانـي المحتمـل جعـل الحاكـم يـرى أن مــن المستحســن والمصلحــة تأجيــل أي تصــرف بشــأنها. مـن السـفينة أخذنـا إلـى حظيـرة كبيـرة فـي نيوأورليانـز، تضـم نحـو خمسـين عبـدًا، ال يتوقـف سـبهم وركلهـم وفرقعـات السـياط فـوق أجسـادهم. وكان األمـر المشـدد لـي أن أنسـى حياتـي السـابقة واسـمي، وأعطيـت اسـم بـات الـذي الزمنـي طـوال سـنوات محنـة العبوديـة. وفـي اليـوم التالـي جــاء الزبائــن وأخــذوا يســتعرضون البضاعــة: أجســادنا وأســناننا كمــا تفحــص الجيــاد عنــد شــرائها، وأحيانـا كان يؤخـذ بعضنـا مـن الرجـال والنسـاء إلـى منـزل فـي الحظيـرة ليفحصـوا عـراة تمامـًـا. وكان أقسـى األحـداث فـي ذلـك اليـوم هـو بيـع الصبـي رانـدال، وانتزاعـه مـن حضـن أمـه إليـزا وهـي تبكـي وتولـول بحرقـة، وسـيدها يهددهـا بسـوطه. بعــد أيــام مرضــت فيهــا ثــم تعافيــت، كان نصيبــي أن اشــتراني ـ ومعــي إليــزا بــدون طفلتهــا ـ رجــل حسـن المظهـر لطيـف السـمات، وكانـت لحظـة رحيلنـا معـه بـدون الطفلـة الجميلـة مروعـة تحـرق القلـب. لقـد رأيـت مـن قبـل أمهـات يقــبّلن بحـزن وبـكاء وجـوه الموتـى مـن أبنائهـن، ولكننـي لـم أر قــط مشــهدا بمثــل هــذا الحــزن الدفيــن والعظيــم الــذي ال حــدود لــه، عندمــا فارقــت إليــزا ابنتهــا انتزاعًــا وهمـا متشـبثتان تصرخـان وتبكيـان بحرقـة. لــم تــر إليــزا البائســة ابنهــا أو ابنتهــا ولــم تســمع عنهمــا بعــد ذلــك مطلقًــا، لكنهمــا لــم يغيبــا عــن خاطرهـا لحظـة واحـدة ليـا أو نهـارًا، بـل كانـت تتحـدث إليهمـا فـي حقـل القطـن وفـي الكـوخ وفـي كل مـكان. كان ســيدنا الجديــد اســمه وليــام فــورد، ويعيــش فــي أبرشــية فــي قلــب لويزيانــا، وصــار واعظًــا
6 | اثنا عشر عامًا من العبودية
معمدانيًــا. ومــن اإلنصــاف أن نقــول إنــه كان رجــا لطيفًــا نبيــاً، لكــن المجتمــع المحيــط بــه أصــم قلبــه عــن الخطــأ الفــادح فــي نظــام العبوديــة، حتــى إنــه لــم يشــكك قــط فــي الحــق األخلقــي لشــخص مــا فــي أن يمتلــك شــخصا آخــر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخذنـا السـيد فـورد إلـى باخـرة فـي نهـر، ثـم غادرناهـا فـي مدينـة صغيـرة تدعـى اإلسـكندرية، علـى بعـد مئـات األميـال مـن نيـو أورليانـز، ومنهـا بدأنـا السـير علـى األقـدام. كانـت الرحلـة إلـى مقـر إقامة السـيد فـورد طويلـة وشـاقة، مررنـا فيهـا بمـزارع وغابـات كثيفـة، ومسـاحات مقفـرة، ومسـتنقعات خطــرة كثيــرة التماســيح والثعابيــن، حتــى وصلنــا إلــى أرض مفتوحــة يتوســطها منــزل كبيــر، خلفــه مطبــخ خشــبي ومخــزن للــذرة وحظيــرة للدجــاج وبضعــة أكــواخ للعبيــد. كان فــي اســتقبالنا أســرة فـورد: زوجتـه وابنتـه، وكان هنـاك الخادمـة سـالي وطفلهـا، والفتـى الطاهـي جـون، بينمـا انتشـر كثيـر مـن العبيـد فـي المـكان الفسـيح. كان الســيد فــورد وزوجتــه مــن األثريــاء، وأعمــال مزرعتــه كثيــرة، وقــد عملــت بجــد طــوال الصيــف فــي تقطيــع جــذوع األشــجار وتكديــس األخشــاب، وكان الرجــل يبــدي رضــاه وتشــجيعه فيــزداد حماسـنا، كمـا كان يجمـع عبيـده أيـام اآلحـاد ويقـرأ لهـم صفحـات مـن الكتـاب المقـدس ويفسـرها . كان حريصًــا علـى أن يغـرس فـي نفوسـنا مشـاعر التعاطـف بيننـا ومحبـة الخالـق، وحدتنـي معاملتـه الطيبــة علــى اقتراحــات لتحســين العمــل، مثــل اقتراحــي اختصــار طريــق نقــل األخشــاب بنقلهــا بطوافـات فـي النهـر صنعتهـا بـد مـن العربـات. وفـي الخريـف تركـت العمـل فـي األخشـاب إلـى العمـل فـي األرض المفتوحـة، واسـتطعت أن أصنـع أنـوا لحياكـة ملبـس العبيـد، وأعجبـه ذلـك كمــا أعجــب أســرته، وزادت معاملتهــم لــي طيبــة، فخفــف ذلــك عنــي آالم العبوديــة. لكــن تلــك الحــال المرضيــة لــم تــدم، فقــد تدهــورت األحــوال الماليــة لســيدي فــورد بســبب ضمانتــه ألخ لــه وصــدور حكــم ثقيــل بحقــه أودى بمعظــم ثروتــه، األمــر الــذي اضطــره إلــى بيــع ثمانيــة عشــر مــن عبيـده، كنـت واحـدًا منهـم، ونفعنـي أن ثمنـي كان أكثـر مـن الديـن، فـكان البيـع معلقًــا إلـى حـد مـا. ودعـت الرفـاق فـي األرض المفتوحـة، ورحلـت مـع تيبيتـس سـيدي الجديد الـذي كان على النقيض مــن ســيدي فــورد، فقــد كان متجهمًــا عدوانيًــا بذيئًــا مســتبدًا، مــع أننــي كنــت أكــدح بجــد فــي أعمـال مختلفـة لـه، مـن سـاعة الفجـر حتـى سـاعة متأخـرة مـن الليـل، بـدون لحظـة راحـة. كان المشـرف علـى عملـي فـي المزرعـة والمسـئول عنـي مـن قبـل السـيد فـورد رجـا لطيفًــا اسـمه شـابين، وقـد وقـف إلـى جانبـي وأنقذنـي فـي موقـف خطيـر ال أنسـاه، فـذات يـوم كلفنـي سـيدي
7 | اثنا عشر عامًا من العبودية
الجديـد بتثبيـت ألـواح مـن الخشـب، ونفـذت أوامـره، ولكنـه بطبيعتـه العدوانيـة لـم يعجبـه عملـي وراح بانفعـال يسـبني سـبًا بذيئًــا، ثـم ركـض صـوب المنـزل وأحضـر سـوطًا غليـظ الجدائـل، وأمرنـي بخلـع ملبسـي ليجلدنـي. لـم أكـن قـد أخطـأت أو قصـرّت، فتحـول خوفـي وخضوعـي إلـى غضـب، ورفضـت خلـع ملبسـي، فاشـتعل انفعالـه ورفـع السـوط، وقبـل أن يهـوي بـه علـى جسـدي لـم أملـك نفسـي وبشـبه جنـون دفعتـه بقـوة فسـقط علـى األرض، وانهلـت عليـه ضربـًـا بالسـوط، وهو يصيـح سـبًا وتهديـدًا حتـى خـرج المشـرف شـابين مـن المنـزل وأقبـل مسـرعًا، فرويـت لـه مـا حـدث، فتعاطـف معـي ووجـه اللـوم إلـي تيبيتـس الـذي قـام وامتطـى جـواده وهـو يتوعـد وابتعـد. نظـر إلـى شـابين وأمرنـي بـأال أبتعـد أو أفكـر فـي الهـرب ودخـل المنـزل، عندئـذ أدركـت فداحـة وشـناعة مــا فعلــت، وانتابنــي شــعور جــارف ومؤلــم بالنــدم، ولــم أملــك إال أن وضعــت رأســي بيــن يــدي وبكيــت، وعندمــا رفعــت رأســي رأيــت تيبيتــس ومعــه رجــان علــى جيادهــم قادميــن، ثــم ترجلــوا واقتربــوا وفــي أيديهــم الســياط وحبــل ملفــو. لــم أبــد أي مقاومــة وهــم يقيــدون كل أعضائــي بالحبــل، الــذي كان ينتهــي بأنشــوطة وضعاهــا حــول عنقــي، ثــم ســأل أحــد الرجليــن: أيــن ســنعلق هــذا الزنجــي؟ وبينمــا كانــوا يجروننــي إلــى إحــدى األشــجار الكبيــرة، خــرج المشــرف شــابين يحمــل مسدسـين فـي يديـه، وبلهجـة حاسـمة قـال: أيهـا السـادة، اسـمعوا مـا أقـول، مـن سـيحاول تحريـك هــذا العبــد قيــد أنملــة فســيموت فــي مكانــه. إنــه ال يســتحق هــذه المعاملــة، فلــم أعــرف قــط فتـى أكثـر إخلصًــا منـه، وأنـا المشـرف علـى هـذه المزرعـة، وأنـا السـيد هنـا ممثـا لويليـام فـورد ومــن واجبــي حمايــة مصالحــه. وفــي ختــام كلمــه الحاســم لــوح بالمسدســين قائــاً: اذهبــوا مــن هنــا فــي التــو واللحظــة. وفعــا وبجبــن ظاهــر امتطــوا جيادهــم واختفــوا. تركنــي شــابين مقيــدًا وكان منـذ بدايـة االعتـداء قـد أرسـل فتـى السـتدعاء السـيد فـورد الـذي جـاء مسـرعًا وحيـن رآنـي قـال: مسـكين بـات، أنـت فـي حالـة مزريـة. مــن تلــك اللحظــة، صــار معروفًــا تربــص الســيد تيبيتــس وتحينــه فرصــة للغــدر واالعتــداء علــي أو قتلـي، فصـرت حـذرًا خائفًــا ليـل نهـار، حتـى اختلـق فرصـة وراح يسـبني منفعـا ثـم أمسـك بفـأس صغيـرة واندفـع نحـوي وهـو يقسـم بـأن يكسـر رأسـي. كانـت تلـك لحظـة حيـاة أو مـوت، فألهمـت بمواجهتـه بركلـة عنيفـة مفاجئـة أوقعتـه، وانتزعـت الفـأس مـن يـده ورميتهـا بعيدًا، فأمسـك بعصا غليظــة وقــد ازداد شراســة، فأمســكته مــن خصــره بقــوة وانتزعتهــا مــن يــده، فاندفــع وأمســك ببلطــة فقبضــت علــى عنقــه وضغطــت حتــى أفلتهــا. فــي تلــك اللحظــات كان هنــاك شــيطان كامـن فـي قلبـي يحثنـي علـى قتلـه قبـل أن يقتلنـي، لكـن همـس صـوت بداخلـي أن ألـوذ بالفـرار، فأطحـت بـه وقفـزت فـوق سـياج المـكان واختفيـت فـي المـزارع. كنـت بائسًــا نهبـًـا لخواطـر شـتى، وروحــي تدعــو خالقــي فــي صمــت: يــا إلهــي، أنــت مــن وهبتنــي الحيــاة وغرســت فــي قلبــي حــب
8 | اثنا عشر عامًا من العبودية
الحيـاة، وجعلتـه مفعمـًـا بالمشـاعر شـأن مخلوقاتـك األخـرى، ال تتخـل عنـي، أسـألك الرحمـة والرفق بعبـدك المسـكين، التقـدر علـي هلكـي، فحمايتـك دونهـا الهـاك.. الهـاك! طــوال النهــار والمطــاردون بكلبهــم المتوحشــة خلفــي وطــوال الليــل، وأنــا أجــري خائفًــا حافيًــا جائعًــا عطشـًـا وسـط األشـواك واألغصـان المتشـابكة فـي الغابـات المليئـة بالوحـوش البريـة، وعبـر المســتنقعات الخطــرة حيــث التماســيح والثعابيــن الســامة، وفــوق األرض الجــرداء الملتهبــة مــن حــرارة الشــمس، حتــى غطــت جســدي الجــروح والدمــاء، وتقطــع مــا علــي مــن أســمال، ثــم كان هنــاك الفــزع مــن أن يرانــي شــخص أبيــض، ألن مــن حقــه أن يعتقلنــي ويــزج بــي فــي الســجن. مـع انبـاج الفجـر وصلـت إلـى أرض مفتوحـة، وظهـر لـي شـخصان: عبـد وسـيده الشـاب منخرطـان فــي صيــد الخنازيــر البريــة. كان منظــري مروعًــا وألهمــت أن أتصــرف متصنعــا الشراســة، وبادرتهمــا بالسـؤال: أيـن الطريـق إلـى مزرعـة وليـام فـورد؟ فأجابـا بخـوف: وراء أشـجار الصنوبرهنـاك. وبـدون أي كلمـة أخـرى اندفعـت مسـرعًا سـعيدًا وهمـا سـعيدان مـن دون شـك باالبتعـاد عنهمـا، حتـى وصلـت إلـى بيـت فـورد، حيـث لقيـت مـا يكفـي مـن العنايـة واألمـان والعـاج، بعـد تجربـة فـراري المأسـاوية. بعـد ثلثـة أيـام تعافيـت وعـدت إلـى العمـل، وأنقـذت مـن شراسـة تيبيتـس بـأن اسـتأجرني سـيد آخـر يدعـى إلـدرت للعمـل بمزرعتـه المجـاورة، ثـم كانـت النجـاة النهائيـة مـن شراسـة تيبيتـس أن اشـتراني سـيد آخـر هـو إدويـن إبـس الـذي قضيـت معـه عشـر سـنوات هـي بقيـة فتـرة العبوديـة. وهكـذا، لـم أعـد ملـكًا لتيبيتـس، لـم أعـد كلبـه وال بهيمتـه، ولـم أعـد أخشـى غضبـه وال ثورتـه وال بطشـه ليـل نهـار. وأيـا كان سـيدي الجديـد، أو أيـًّـا كان طبعـه، فلـم أكـن أشـعر باألسـف علـى االنتقـال إليـه بـأي حـال. لقـد تنفسـت الصعـداء مرتاحًــا فـي مـكان إقامتـي الجديـد ألول مـرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان سـيدي الجديـد إدويـن إبـس رجـا طويـا ضخـم الجثـة سـمينًا وممتلئـًـا، أمـا تعبيـر وجهـه فـكان حــادًا وفضوليًــا، وســلوكه فظًــا ومنفــرًا، وفــي لغتــه وألفاظــه دليــل واضــح علــى أنــه لــم ينــل أي قســط مــن التعليــم أو التهذيــب . كان مغرمًــا بقنينــة الشــراب حتــى إنــه كان يثمــل أحيانًــا لفتــرة تتجـاوز أسـبوعين كامليـن، لكنـه أصلـح مـن عادتـه مؤخـرًا جـدًا، المؤلـم أنـه كان يجـد قمـة اسـتمتاعه بالرقــص مــع عبيــده مــن الزنــوج وضربهــم بســوطه الطويــل علــى ظهورهــم، فقــط للســتمتاع بصياحهـم وصراخهـم، خاصـة حيـن يوجـه طـرف سـوطه ببراعـة خبيثـة تميـز بهـا إلـى منطقة حساسـة مـن أجسـادهم. لفـت نظـري فـي مزرعتـه أنهـم يسـتخدمون الثيـران والبغـال فـي الحـرث، وكثيـرًا مـا كانـت النسـاء
9 | اثنا عشر عامًا من العبودية
يؤديــن هــذا العمــل شــأن الرجــال، وكان الســوط ال يســكن أبــدا علــى ظهــور العبيــد طــوال اليــوم مـن الصبـاح حتـى الليـل، حثًــا علـى العمـل بهمـة وبأسـرع مـا يمكـن وخاصـة فـي أيـام جمـع القطـن. وبرغــم تلــك المشــاهد المؤلمــة، فإننــي لــم أفقــد اإلحســاس بجمــال مشــهد حقــل القطــن حيــن يزهــر، فيبــدو مثــا للنقــاء، وكأنــه مســاحة طاهــرة مــن الضــوء أو الثلــج الــذي ســقط لتــوه مــن الســماء فــوق األرض. بانتهــاء يــوم العمــل فــي الحقــل تُحمــل الســال إلــى محلــج القطــن لوزنهــا، وكانــت تلــك لحظــات مرعبـة لـكل عبـد أو أمـة، ألنـه إذا لـم تكـن السـلة بالـوزن المطلـوب المبالـغ فيـه دائمـًـا، فـإن عـذاب الجلــد فــي االنتظــار. وبعــد الــوزن والجلــد الــذي يعقبــه، تحمــل الســال إلــى مخــزن القطــن ثــم إلــى المكبــس. وال ينتهــي بذلــك عمــل اليــوم، فهنــاك أعمــال إطعــام البغــال والخنازيــر وتقطيــع األخشــاب وغيــر ذلــك، ثــم إشــعال نــار فــي األكــواخ إلعــداد طعــام اليــوم التالــي، وأخيــرا يرتمــون للنــوم ســاعات قليلــة للســتيقاظ والعمــل قبــل شــروق الشــمس . كان العمـل األول الـذي كلفـت بـه عنـد السـيد إبـس هـو صناعـة مقابـض الفـؤوس، ثـم حـل موسـم عـزق األرض، فأرسـلت إلـى حقـل الـذرة ثـم إلـى قطـف القطـن، ولكـن ظهـرت علـي أعـراض المـرض والحمـى الشـديدة حتـى صـرت أترنـح وأقـع أثنـاء العمـل، ولمـا تفاقمـت حالتـي وقيـل إننـي أحتضـر، لـم يرغـب السـيد إبـس فـي تحمـل خسـارة حيـوان يملكـه قيمتـه ألـف دوالر، فوافـق علـى اسـتدعاء طبيـب. وكتبـت لـي النجـاة وتماثلـت للشـفاء جزئيـًـا، فلـم ينتظـر وأمرنـي بالعمـل فـي حقـل القطـن، ولـم تكـن لـي أي خبـرة بجمـع القطـن بكلتـا يـدي مثـل بقية العبيد، وحاولت وفشـلت في اكتسـاب المهـارة فيـه، وكانـت حصيلـة مـا أجمعـه أقـل ممـا يريـد، ولمـا أدرك إبـس أن التدريـب والجلـد غيـر مجدييـن بالنسـبة إلـي، نعتنـي بأننـي وصمـة عـار، وقـرر تحويلـي إلـي العمـل فـي تقطيـع األخشـاب ونقلهـا وسـحب القطـن مـن الحقـل إلـى المحلـج وأعمـال أخـرى قـد تلـزم، بحيـث ال تتـاح لـي لحظـة سـكون أو خلـو مـن العمـل. ولمـا كان قـد عَــرف وعرفـت زوجتـه أنـي أعـرف العـزف علـى الكمـان، فإنهـا راحـت تلـح عليـه أن يشـتري لـي آلـة كمـان أثنـاء زيارتـه لمدينـة نيوأورليانـز، ألعـزف لهـا، حتـى رضــخ أخيــرًا واشــترى الكمــان، وصــرت فــي أحيــان كثيــرة أســتدعَى إلــى داخــل منزلــه للعــزف أمــام األســرة، حيــث كانــت الســيدة مغرمــة بالموســيقى. وكثيــرًا مــا نجتمــع ـ نحــن العبيــد ـ فــي الغرفــة الكبيــرة فــي المنــزل الكبيــر، كلمــا عــاد إبــس إلــى المنــزل بمــزاج راقــص، وأبــدأ العــزف وهويصيــح راقصًــا: “ارقصـوا أيهـا الزنـوج الملعيـن، ارقصـوا..” وعـادة مـا يكـون ممسـكًا بسـوطه، ليهـوي بـه فــوق أذن أي عبــد يجــرؤ علــى التباطــؤ أو الراحــة لحظــة. كنــا نحــن العبيــد البؤســاء التعســاء نُجبــر علــى الرقــص والضحــك فــي ليــال كثيــرة حتــى مطلــع الصبــح، بينمــا كنــا مــن شــدة إرهــاق عملنــا
10 | اثنا عشر عامًا من العبودية
الشـاق طـوال اليـوم نتمنـى أن نرتمـي فـوق األرض نتوجـع وننـام. كان هـذا الرجـل شـديد القسـوة وظالمًــا وطاغيـة، وكان كل عبـد وأَمـة عنـده يقاسـي عذابـات متنوعـة علـى يديـه، ولسـت أنسـى آالم اإلمـاء البائسـات، وبخاصـة الفتـاة باتسـي، التـى كانـت مـن سـالة زنـوج غينيـا الذيـن تـم جلبهـم إلـى كوبـا فـي سـفينة للرقيـق. كانـت فـي أوائـل العشـرينيات مـن العمـر نحيلـة ممشـوقة القـوام، فــي هيئتهـا وحركتهــا شــيء مــن الشــموخ لــم يُــود بـه الشـقاء والتعذيــب، سـريعة الجـري والقفــز فــوق األســوار العاليــة، ماهــرة فــي قطــع األخشــاب وترويــض الجيــاد وال يســتطيع أي جــواد أن يسـقطها عـن ظهـره، وكانـت بحـق ملكـة الحقـل فـي جمـع القطـن. أمـا طبيعتهـا فكانـت لطيفـة مرحــة طيبــة القلــب مخلصــة ومطيعــة، بيــد أنهــا كانــت كثيــرًا مــا تبكــي بحرقــة، وعذبــت أكثــر مــن كل رفاقهــا حتــى تســلخ جســدها مــن أثرالســياط، ال إلهمــال أو عصيــان، وإنمــا ألن قدرهــا أوقــع بهـا لتكـون أَمـة لسـيد شـهواني نهـم يسـتغلها، وسـيدة طيبـة وعطوفـة، لكنهـا كانـت مشـتعلة الغيـرة بسـبب مـا تعرفـه مـن سـلوك زوجهـا، حتـى إنهـا حاولـت غوايتـي بالرشـوة ألقتلهـا وأخفـي جثتهـا فـي المسـتنقعات، وكثيـرًا مـا كانـت نهبًــا للضطهـاد والتعذيـب بـا أي ذنـب وإنمـا إلرضـاء السـيدة. لكـن أبشـع حـدث شـيطاني كان حيـن اتهمهـا بالذهـاب إلـى بيـت صاحـب مزرعـة مجـاورة، وأمرنـا بـدق أربعـة أوتـاد فـي األرض حـدد أماكنهـا، وتجريدهـا مـن ملبسـها تمامًــا وتمديدهـا علـى وجههـا علـى األرض، وتقييـد يديهـا ورجليهـا باألوتـاد، ثـم أعطانـي سـوطًا ثقيـا وأمرنـي بجلدهـا. لـم أكـن أملـك عصيـان أوامـره رغـم شـدة مرارتهـا، حتـى تمـزق جلدهـا الدامـي وبـدت كالمحتضـر، فتوقفـت، فسـبني وهددنـي واختطـف السـوط وانهـال عليهـا. كان قلبـي يتمـزق إشـفاقًا عليهـا، ولـم أكـن أسـتطيع إال أن أردد فـي ضميـري: “ أيهـا الشـيطان، عاجـا أو آجـاً، فـي مـكان مـا فـي مسـار العدالـة األبديـة، سـوف تدفـع ثمـن ذنوبـك هـذه!” ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مــرت األيــام ثقيلــة حافلــة بشــقاء األعمــال المتعــددة والتعذيــب والقهــر، وطوالهــا لــم يكــف أو يفتـر تفكيـري فـي أسـرتي وحريتـي، وفـي حلـم أن تسـنح فرصـة للفـرار واالتجـاه شـما ً، أو إلرسـال رسـالة اسـتنجاد إلنقـاذي. ولقـد حاولـت مـرارًا، وحمـدا للخالـق لـم تنكشـف محاوالتـي. مـرة أبـدى بَحّــار مــن الشــمال صاحــب ســفينة نقــل تعاطفًــا نحــوي حتــى إننــي صارحتــه بمأســاتي ورجوتــه أن يسـمح لـي باالختبـاء وسـط البضائـع، لكنـه خشـي كشـف ضُبـاط مصلحـة الجمـارك األمـر، وهـو مـا يعرضـه للعقـاب ومصـادرة سـفينته. ومـرة احتلـت حتـى حصلـت علـى ورقـة وصنعـت حبـرًا وكتبـت رســالتي وكــدت أســلمها لرجــل أبيــض رقيــق الحــال كان يبحــث عــن وظيفــة مُشْــرِف وبقــي معنــا بضعــة أيــام، وأدرك متعاطفًــا اختلفــي عــن العبيــد اآلخريــن، فأبديــت لــه رجــاء بــأن يوصــل فــي
11 | اثنا عشر عامًا من العبودية
السـر رسـالة منـي إلـى مكتـب البريـد فـي المدينـة، ووعدنـي بـأن يفعـل. وحسـنًا أننـي لـم أصارحـه بقصتـي، فقـد ألمـح لسـيدي بـأن بيـن عبيـده مـن يكتـب ويحـاول الفـرار، واسـتجوبني إبـس فأنكـرت بشـدة وقلـت إنـه يحـاول التقـرّب منـك لتعيينـه مشـرفًا، فبـدا ميـا لهـذا التفسـير، لكنـه هددنـي بأنـه سـيجلدني مئـة جلـدة إن رأى ورقـة عنـدي. وطبعـا أسـرعت بعدهـا بإحـراق الرسـالة. بمــرور األيــام، عرفــت قصصًــا كثيــرة مختلفــة النتائــج عــن خلفــات عنيفــة بيــن اثنيــن مــن المُــاك البيـض انتهـت بقتـل أحدهـم، وعـن محـاوالت بعـض العبيـد الفـرار مـن جلديهـم، ونجاح نـدرة منهم فـي ذلـك، ومـوت آخريـن فـي الغابـات والمسـتنقعات، بـل عرفـت قصصًــا لبعضهـم تمـرد مـن شـدّة التعذيـب، وضـرب المشـرف، أو قتـل سـيده، فأعـدم أمـام رفاقـه. وقـد كانـت هنـاك قصـة مثيـرة تناولتهـا الصحـف عـن حركـة تجمـع للعبيـد قادهـا رجـل مغامـر، أشـاعت الذعـر بيـن البيـض والسـود علـى السـواء، وانتهـت بالفشـل واإلعـدام العشـوائي بـدون محاكمـة، لـوال وصـول مجموعـة مـن الجنـود النظامييـن لضبـط األمـور. وكانـت هـذه األحـداث تجعلنـي أفكـر فـي مأسـاة العبوديـة ومـا تولـد مـن عنـف ووحشـية واسـتهانة بالحيـاة البشـرية، نتيجـة مـرأى البشـر فـي معاناتهـم اليوميـة، واالسـتماع إلـى صرخـات العبيـد المؤلمـة، ورؤيـة أجسـادهم تتلـوى تحـت وطـأة الجلـد بـا رحمـة، وعضهـم وتمزيقهـم بأنيـاب الـكلب، وموتهـم ودفنهـم بـا أكفـان. كانــت األفــكار الســائدة تنظــر إلــى المأســاة باعتبارهــا مــن طبيعــة العبيــد وجهلهــم وهمجيتهــم وقصور إنسانيتهم، وكنت أقول في ضميري: ليتهم يتعرفون على مكنون قلب العبد المسكين، ويطلعـون علـى أفـكاره التـي ال يجـرؤ علـى التفـوه بهـا فـي حضـرة الرجـل األبيـض، ليتهـم يجلسـون إلـى جـواره فـي المراقبـة الليليـة، ويتحدثـون إليـه بصـدق عـن الحيـاة والحريـة والسـعي إلـى تحقيـق السـعادة اإلنسـانية، فإنهـم سـيجدون أن تسـعة وتسـعين فـي المئـة مـن العبيـد أذكيـاء بمـا يكفـي لفهـم حقيقـة وضعهـم، وكيـف أنهـم يتوقـون مثـل كل البشـر إلـى الحريـة والعدالـة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانـت فتـرة الراحـة الوحيـدة التـي يسـمح للعبـد بهـا فـي السـنة بأكملهـا هـي عطلـة عيـد الميـاد، وكان إبـس يمنحنـا فيهـا ثلثـة أيـام، بينمـا كان آخـرون يسـمحون بأربعـة وخمسـة وسـتة أيـام، كل وفـق درجـة كرمـه، وكانـت تلـك أوقـات الوالئـم والرقـص والمـرح واألعيـاد ألبنـاء العبوديـة، وكان مـن المعتـاد أن يتنـاوب المزارعـون إقامـة مأدبـة عشـاء ليلـة الميـاد، ويدعـو إليهـا عبيـده والعبيـد مــن المــزارع المجــاورة، فيجتمــع فيهــا مــن ثلثمئــة إلــى خمســمئة شــخص، وتمتــد المائــدة فــي الهــواء الطلــق فوقهــا صنــوف اللحــم والخضــراوات والكعــك والفطائــر ممــا ال يتذوقونــه طــوال
12 | اثنا عشر عامًا من العبودية
أيـام السـنة. وكان البيـض يأتـون بأعـداد كبيـرة لمشـاهدة ابتهـاج العبيـد. وبعـد الطعـام يبـدأ الرقص والعـزف علـى آالت البانجـو اإلفريقيـة، وأقـوم أنـا بالعـزف علـى الكمـان الـذي اشـتهرت بإجادتـه، وصـار سـيدي يؤجرنـي لمـن يطلـب مـن المـاك أمثالـه، وأمنـح منهـم بعـض اإلكراميـات. واحســرتاه! ال أعــرف كيــف كنــت ســأحتمل ســنوات عبوديتــي الطويلــة المريــرة لــوال كمنجتــي الحبيبـة. لقـد فتحـت لـي أبـواب المنـازل الكبيـرة، وأعفتنـي مـن الكثيـر مـن األعمـال اليوميـة الشـاقة فـي الحقـل، وكثيـرًا مـا أخذتنـي بعيـدًا عـن سـيدي قاسـي القلـب. كانـت رفيقتـي وأنيسـتي تصـدح عاليًــا متـى كنـت سـعيدًا، وتترنـم بمواسـاتها الناعمـة الهادئـة إذا كنـت حزينـا.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، اســتقدم ســيدي إبــس نجــارًا مــن المدينــة لبنــاء منــزل خشــبي لــه، فجــاء 1852 فــي شــهر يونيــو ومعـه مسـاعدوه وُضممـت إليهـم لسـابق خبرتـي بالنجـارة. كان بينهـم شـخص يدعـى بـاس كان شـديد الهـدوء رابـط الجـأش مغرمـا بالنقـاش، متسـامحًا طيـب القلـب وفاعـل خيـر، وكان اليخفـي رأيــه فــي رفــض العبوديــة أثنــاء نقاشــه مــع النجــار. رأيــت بيقيــن أنــه ضالتــي، لذلــك كنــت حريصًــا علــى التقــرّب إليــه، حتــى جــاء وقــت كنــا معًــا وحدنــا فــي مــكان العمــل، فســألته بلطــف: ســيد بــاس، هــل لــي أن أســألك مــن أي مدينــة أتيــت؟ فأجــاب: لمــاذا يــا بــات ؟ فيــم تفكــر؟ ال أظنــك سـتعرف المـكان لـو قلـت إنـي مـن كنـدا، فقلـت مـن فـوري: بـل أعـرف أيـن كنـدا، وكنـت هنـك مـن قبـل.. فـي مونتريـال وكينجسـتون وكوينسـتون، وذهبـت إلـى واليـة يـورك فـي بافالـو وروتشسـتر وألبانــي، ويمكننــي أن أخبــرك بأســماء القــرى علــى قنــاة إيــري وشــامبلين.. اسـتدار الرجـل إلـي، وحـدق فـي طويـا ثـم قـال: كيـف أتيـت إلـى هنـا؟ رحـت أرجـوه أن يحفـظ سـري فأكـد لـي ذلـك، فاتفقنـا علـى اللقـاء فـي منتصـف الليـل، ورويـت لـه مأسـاتي، فتأثـر بعمـق وكتـب المعلومــات اللزمــة ووعدنــي ببــذل كل جهــد لعتقــي مــن العبوديــة، وأوصانــي بالتــزام الصمــت وشـدة الحـذر. وصـدق الرجـل وعـده، فعندمـا ذهـب إلـى المدينـة كتـب الرسـائل وأرسـلها. وأسـتطيع تخيـل مـا أحدثتـه الرسـائل فـي قلـوب أهلـي ومعارفـي، ومـا بـذل مـن مجهـودات واتصـاالت بالحاكم وإعــداد كل األوراق والشــهادات اللزمــة. أخيــرًا يــا إلهــي جــرت الريــاح كمــا أتمنــى وإن يكــن ببــطء وحـذر، وتـم تعييـن صديـق العائلـة المستشـارالقانوني النبيـل هنـري بـي نورثـوب وكيـا لـه مطلـق الصلحيـات لتنفيـذ اسـتعادتي، وكُلّــف بالسـفر إلـى لويزيانـا مـع الوفـد المناسـب للمهمـة. عبــر رحلــة شــاقة وصــل الســيد نورثــوب إلــى ماركســفيل القريــة التــي أرســل منهــا الســيد بــاس الرسـائل، وراح يتحـرى فـي حـذر، فقـد اتضحـت لـه صعوبـة العثـور علـي إال بمسـاعدة مـن يعرفنـي
13 | اثنا عشر عامًا من العبودية
أو مـن كتـب الرسـائل. ويبـدو أن القـدر كان معـي هـذه المـرة، فقـد اهتـدى إلـى السـيد بـاس الـذي كان معروفًــا بآرائــه المناهضــة للعبوديــة، وبعــد حــوار معــه واكتســاب ثقتــه قــال بــاس: نعــم أنــا مـن كتـب الرسـائل، وأنـا سـعيد لرؤيتـك ومجيئـك إلنقـاذ سـولمون نورثـوب وهـو اآلن عبـد لـدى إدويــن إبــس فــي مزرعتــه فــي بايــو بــوف، وليــس معروفًــا هنــا باســم ســولمون نورثــوب، وإنمــا يدعونــه بــات. وهكــذا تــم الكشــف عــن الســر، وعبــر الســحابة الســوداء الســميكة، ومــن بيــن ظللهــا الســوداء البائسـة التـي أطبقـت علـي اثنـي عشـر عامًــا، نفـذ الضـوء الـذي سـيرد لـي حريتـي. وبسـرعة وسـرية اتخـذت كل اإلجـراءات القانونيـة، وفـي منتصـف الليـل أصـدر القاضـي أمره وكلّف مسـئول الشـرطة بالتحـرّك فـورًا مـع المستشـار نورثـوب إلـى مـكان وجـودي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان الجـو فـي ذلـك الصبـاح شـديد البـرودة يجمـد أصابعنـا ويعـوق أداءنـا للعمـل بسـرعة فـي الحقل، ورآنــا إبــس فثــار مهــددًا بأنــه ســيدفئنا فــي الحــال، وأســرع إلــى المنــزل ليحضــر الســوط، ومــن بعيــد ظهـر القادمـان، ونـزال مـن العربـة واتجهـا إلينـا وسـألنا مسـئول الشـرطة: أيـن الفتـى الـذي يدعونـه بــات؟ فأشــار أحــد رفاقــي إلــي قائــاً: هــذا يــا ســيدي. فاتجــه إلــي ســائلً: اســمك بــات؟ أجبــت: نعـم يـا سـيدي. فأشـار تجـاه الرجـل الـذي جـاء معـه وكان غيـر بعيـد عنـا، وسـألني: هـل تعـرف هـذا الرجــل؟ نظــرت محدقًــا فــي ملمحــه، واجتاحــت عقلــي صــور آالف الوجــوه التــي أعرفهــا: زوجتــي وأوالدي وأصدقائــي ومعارفــي، حتــى تجلــت لــي ملمــح هــذا الرجــل، فرفعــت يــدي إلــى الســماء، وصرخـت بأعلـى صـوت: هنـري بـي نـور ثـوب.. شـكرًا للـه.. شـكرًا للـه! واتجهـت مندفعًــا نحـوه، لكـن مســئول الشــرطة وقــف أمامــي قائــاً: انتظــر، هــل لــك أي اســم آخــر ســوى بــات؟ قلــت: اســمي هـو سـولمون نـور ثـوب يـا سـيدي. وهـل لديـك أسـرة؟ نعـم زوجتـي آن وأوالدي إليزابيـث ومارجريـت وألونــزو. ومــا اســم زوجتــك قبــل الــزواج؟ قلــت: آن هامبتــون. ومــن زوّجــك إياهــا؟ تيموثــي إيــدي مــن فــورت إدوارد. ســأل وهــو يشــير إلــى المستشــار نورثــورب: وأيــن يعيــش هــذا الرجــل؟ يعيــش فـي سـاندي هـل مقاطعـة واشـنطن نيويـورك. ولـم أنتظـر مزيـدًا مـن األسـئلة، واندفعـت متشـبثًا بصديقـي القديـم وبكيـت. وأخيـرًا قـال: كـم أنـا سـعيد برؤيتـك يـا سـول! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان موقـف مغادرتـي مذهـا لرفاقـي العبيـد فـي المزرعـة، حتـى إن باتسـي راحـت تبكـي بمـرارة. كمــا كان صدمــة أثــارت غضــب الســيد إبــس وأســف زوجتــه الطيبــة، لفقدهــا مــن يعــزف علــى
14 | اثنا عشر عامًا من العبودية
الكمــان ويصلــح الكراســي واألنــوال. وفــي المدينــة أجريــت اإلجــراءات القانونيــة اللزمــة، وبالعربــات ثــم الســفينة غادرنــا إلــى الشــمال، وكأننـي فـي حلـم، حتـى وصلـت بصحبـة عديـد مـن األصدقـاء إلـى بيـت أسـرتي، حيـث كان عنـاق حـار وتشـبث، والدمـوع تجـري أنهـارا فـوق الخـدود، وفيضـان المشـاعر تعجـز عـن وصفـه الكلمـات.. وهنـا تنتهـي قصتـي. وليـس لـدي تعليقـات علـى مسـألة العبوديـة، فقـد وصفتهـا بمنتهى الصدق واإلخـاص مـن دون خيـال وال مبالغـة، وال شـك لـدي فـي أن هنـاك اآلالف قـد صادفـوا الحـظ العاثــر الــذي صادفتــه، وأن المئــات مــن المواطنيــن األحــرار قــد تــم اختطافهــم وبيعهــم للــرق، وهـم اآلن يبلـون حياتهـم فـي مـزارع تكسـاس ولويزيانـا.. ولكننـي صبـرت وهذبـت وروضـت روحـي بالمعانـاة التـي احتملتهـا، وكنـت ممتنًــا للخالـق الـذي برحمتـه عـدت إلـى السـعادة والحريـة، وآمـل مـن اآلن فصاعـدًا أن أعيـش حيـاة مسـتقيمة علـى تواضعهـا، وأن تكـون راحتـي األخيـرة فـي سـاحة الكنيسـة التـي يرقـد فيهـا والـدي!
15 | اثنا عشر عامًا من العبودية
Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16Powered by FlippingBook